الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: والصدِّيق فعيل، المبالغ في الصدق أو في التصديق، والصدّيق هو الذي يحقق بفعله ما يقوله بلسانه.وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصدّيق.وقد تقدّم في البقرة اشتقاق الصدّيق ومعنى الشهيد.قال القرطبي:في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيّون، ثم ثَنّى بالصدّيقين ولم يجعل بينهما واسطة.وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه صدّيقًا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدّم بعده أحد. والله أعلم. اهـ..قال الفخر: لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر، والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن هذه الآية دالة على أن مرتبة الشهادة مرتبة عظيمة في الدين، وكون الإنسان مقتول الكافر ليس فيه زيادة شرف، لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله.الثاني: أن المؤمنين قد يقولون: اللهم ارزقنا الشهادة، فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل وأنه غير جائز، لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر، فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر، الثالث: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: المبطون شهيد والغريق شهيد، فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى الفاعل، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمًا بالقسط} [آل عمران: 18] ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث أنه بذل نفسه في نصرة دين الله، وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة، كما قال: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143]. اهـ..قال القرطبي: والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.وقيل: {والشهداء} القتلى في سبيل الله.{والصالحين} صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.قلت: واللفظ يعم كل صالح وشهيد. والله أعلم. اهـ..قال الفخر: الصالح هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وفي عمله، فإن الجهل فساد في الاعتقاد، والمعصية فساد في العمل، وإذا عرفت تفسير الصديق والشهيد والصالح ظهر لك ما بين هذه الصفات من التفاوت، وذلك لأن كل من كان اعتقاده صوابا وكان عمله طاعة وغير معصية فهو صالح، ثم أن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل، وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل وأخرى بالسيف، وقد لا يكون الصالح موصوفا بكونه قائما بهذه الشهادة، فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا، وليس كل من كان صالحا شهيدا، فالشهيد أشرف أنواع الصالح، ثم أن الشهيد قد يكون صديقا وقد لا يكون: ومعنى الصديق الذي كان أسبق إيمانا من غيره، وكان إيمانه قدوة لغيره، فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا، وليس كل من كان شهيدا كان صديقا، فثبت أن أفضل الخلق هم الأنبياء عليهم السلام، وبعدهم الصديقون، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة، وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح.فالحاصل أن أكابر الملائكة يأخذون الدين الحق عن الله، والأنبياء يأخذون عن الملائكة، كما قال: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] والصديقون يأخذونه عن الأنبياء.والشهداء يأخذونه عن الصديقين، لأنا بينا أن الصديق هو الذي يأخذ في المرة الأولى عن الأنبياء وصار قدوة لمن بعده، والصالحون يأخذونه عن الشهداء، فهذا هو تقرير هذه المراتب وإذا عرفت هذا ظهر لك أنه لا أحد يدخل الجنة إلا وهو داخل في بعض هذه النعوت والصفات. اهـ.قال الفخر:قال الواحدي: إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع، لأن الرفيق والرسول والبريد تذهب به العرب إلى الواحد والى الجمع قال تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} [الشعراء: 16] ولا يجوز أن يقال: حسن أولئك رجلا، وبالجملة فهذا إنما يجوز في الاسم الذي يكون صفة، أما إذا كان اسما مصرحا مثل رجل وامرأة لم يجز، وجوز الزجاج ذلك في الاسم أيضا وزعم أنه مذهب سيبويه، وقيل: معنى قوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رفيقًا} أي حسن كل واحد منهم رفيقا، كما قال: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67]. اهـ..قال في البحر المديد: {وحسن أولئك رفيقًا} أي: ما أحسنهم رفقًا في الفراديس العُلى، فهم يتمتعون فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كانوا أعلى منهم، فلا يلزم من كونه معهم أن تستوي درجته معهم، قال في الحاشية: وتعقل مرافقة من دون النبي في المدانات من حاله وكشفه، بحيث لا يحجب عنه، وإن كان لا مطمع له في منزلته، واعتبر برؤية البصائر له وعدم غيبته عنهم وأنسهم به والاستفادة منه. اهـ..قال الفخر: اعلم أنه تعالى بين فيمن أطاع الله ورسوله أنه يكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم لم يكترث بذلك، بل ذكر أنه يكون رفيقا له، وقد ذكرنا أن الرفيق هو الذي يرتفق به في الحضر والسفر، فبين أن هؤلاء المطيعين يرتفقون بهم، وإنما يرتفقون بهم إذا نالوا منهم رفقا وخيرا، ولقد ذكرنا مرارًا كيفية هذا الارتفاق، وأما على حسب الظاهر فلأن الإنسان قد يكون مع غيره ولا يكون رفيقًا له، فأما إذا كان عظيم الشفقة عظيم الاعتناء بشأنه كان رفيقا له، فبين تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون له كالرفقاء من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته. اهـ..قال أبو حيان: قال أبو عبد الله الرازي: هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد: الأول: إشراق الأرواح بأنوار المعرفة.والثاني: كونهم مع النبيين.وليس المراد بهذه المعية في الدرجة، فإنّ ذلك ممتنع، بل معناه: إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض، فتصير أنوارها في غاية القوة، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه.وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد.وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه.وقوله: {مع الذين أنعم الله عليهم}، تفسير لقوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} وهم من ذكر في هذه الآية.والظاهر أن قوله: {من النبيين}، تفسير للذين أنعم الله عليهم.فكأنه قيل: من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم.قال الراغب: ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب: النبي بالنبي، والصديق بالصديق، والشهيد بالشهيد، والصالح بالصالح.وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله: {ومن يطع الله والرسول}.أي: من النبيين ومن بعدهم، ويكون قوله: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} إشارة إلى الملأ الأعلى.ثم قال: {وحسن أولئك رفيقًا} ويبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين الموت «اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى» وهذا ظاهر انتهى. وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى، ومن جهة النحو.أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، أخبر الله تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر، ولو كان من النبيين معلقًا بقوله: {ومن يطع الله والرسول}، لكان قوله: {من النبيين} تفسيرًا لمن في قوله: {ومن يطع}.فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه، وهذا غير ممكن، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمدًا هو خاتم النبيين.وقال هو صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي» وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها، لو قلت: إنْ تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة، لم يجز.واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين.فقال بعضهم: كلها أوصاف لموصوف واحد، وهي صفات متداخلة، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقًا وشهيدًا وصالحًا.وقيل: المراد بكل وصف صنف من الناس.فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب.فقيل: هو الكثير الصدق، وقيل: هو الكثير الصدقة.وللمفسرين في تفسيره وجوه: الأول: أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} الثاني: أفاضل أصحاب الرسول.الثالث: السابق إلى تصديق الرسول.فصار في ذلك قدوة لسائر الناس.وأما الشهيد: فهو المقتول في سبيل الله، المخصوص بفضل الميتة.وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم.وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال أبو عبد الله الرازي: لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى فاعل، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان، وتارة بالسيف والسنان.فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} والصالح: هو الذي يكون صالحًا في اعتقاده وعمله.وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى، إلى أدنى منه.وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله، وأرفعهم درجات عنده.وقال الراغب: قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزل واحد منهم: الأول: الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من قريب.ولذلك قال تعالى: {أفتمارونه على ما يرى} الثاني: الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له: هل رأيت الله؟ فقال: ما كنت لأعبد شيئًا لم أره ثم قال: لم تره العيون بشواهد الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.
|